في الأزمات والحروب، تتنوع أساليب التعبير عن الظروف والأحداث، وهذا ينطبق على الثورة السورية، التي برز فيها الفن، باعتباره “لغة تواصل عالمية” حاولت نساء استخدامها لإيصال رسائل إلى الشعوب أو التضامن مع قضاياهم.
إدلب- “أبحث عن أي سطح قابل لاستقبال اللون، أو باهت حتى أحييه بالألوان”، بهذه الكلمات عبرت الرسامة يافا دياب، من بنش بريف إدلب، شمال غرب سوريا، عن شغفها بالفن الذي عاشت قصة حب معه منذ صغرها ورافقها في السلم والحرب.
نشأت دياب، 25 عاماً، على حب الفن منذ الطفولة، مترجمة هذا الحب إلى رسومات عن الجمال، كالورود والعصافير والطبيعة، إلى أن اندلعت الثورة السورية في آذار/ 2011، التي غيرت مسارها الفني.
لم تتخلى دياب عن ريشتها، ولكن حولتها إلى “وسيلة أدعم بها أبناء بلدي ومطالبهم”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، لتلامس رسومها هموم الناس وظروفهم، كتلك اللوحة التي أسمتها “عين الثورة”، وشاركت بها في المعرض الجماعي الدولي “الفن بلا حدود من أجل السلام والدفاع عن حقوق الإنسان”، الذي أقيم في إيطاليا عام 2022، لتحصد بها جائزة السلام الدولية.
“مصدر إلهامي قضايا الوطن، الحرب، قصص المعتقلين، المشاعر العاطفية سواء إيجابية أو سلبية، والجمال، حتى العناصر الجامدة التي تخلق لي شعوراً أو إحساساً جديداً قد تكون مصدر إلهامي”، بحسب دياب، التي يتوزع فنّها بين الرسم والتشكيل والأشغال اليدوية، واكتسبت شهرتها من لوحة “عين الثورة”، وهي عبارة عن لوحة زيت على قماش.
رغم الظروف الأمنية والاقتصادية التي يعيشها أكثر من ستة ملايين نسمة في مناطق المعارضة، شمال غرب سوريا، بينهم نحو مليوني نسمة في مخيمات النزوح، تحاول الفنانات، اللاتي يعانين أيضاً من ظروف مجتمعية، الاستمرار في طريق الفن، كما هو حال دياب وأمثالها.
أماني العلي، 38 عاماً، المقيمة في مدينة إدلب، دخلت مجال الفن، عام 2016، عبر تقديم لوحات كاريكاتيرية اجتماعية وسياسية، وهي أول رسامة كاريكاتير في منطقة إدلب، نشرت أعمالها الفنية في عدد من المواقع المحلية والعربية والدولية، قائلة لـ”سوريا على طول”: “كانت بدايتي في جريدة سوريتنا، وبعدها انتقلت إلى العربي الجديد، ثم الحرية برس، كما عملت مع مواقع أجنبية، وحالياً أعمل مع صحيفة فرنسية إلى جانب تقديم أعمال لصحف عربية”.
في هذا الشهر، حاز فيلم “أماني خلف الخطوط”، الذي يجسد قصة العلي، على جائزة في مهرجان Grand Bivouac الفرنسي، باعتباره أفضل سلسلة وثائقية في مهرجان كان الدولي، وهو من إخراج أليسار الحسن وآلاء عامر.
الفن سلاح فعال
في الأزمات والحروب، تختلف أدوار الفاعلين والفاعلات في المجتمع، وتتنوع أساليب تعبيرهم عن الظروف والأحداث، وهذا ينطبق على الثورة السورية، التي برز فيها الفن باعتباره لغة تواصل عالمية، يمكن عبرها إيصال رسائل إلى الشعوب أو التضامن مع قضاياهم.
“أقبلت على فن الغرافيتي (الجداريات) للتواصل مباشرة مع العالم وجذب الانتباه لقضيتنا من دون حواجز أو قيود”، قالت الرسامة سلام الحامض، 32 عاماً، وهي من مدينة جسر الشغور بريف إدلب الغربي، مشيرة إلى “قدرة الفن الكبيرة على إيصال رسائل قوية للعالم”.
ظهرت موهبة الرسم عند الحامض منذ طفولتها، لكنها شعرت بأهمية الفن خلال سنوات الثورة السورية، حتى أصبحت الريشة “سلاحاً أواجه به، ووسيلة أعبر به عن أي شعور ينتابني”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
“بريشتي أجسد معاناة المظلومين، وأنقل هموم الناس من نازحين ومقهورين، وأنقل مشاهد الظلم والقهر، سواء قصف الأبرياء، أو أصوات المعتقلين، وتخاذل العالم وغياب الإنسانية”، بحسب الحامض.
بالريشة أيضاً، تحاول أماني العلي إيصال رسالتها، مستخدمة فن الكاريكاتير لأنه “أكثر شيء أشعر أنه يشبهني ويستهويني”، كما أنها تستطيع عبر هذا الفن الساخر “إيصال الفكرة بطريقة مضحكة متهكمة وذكية، ويمكن أن أحقق المطلوب من رسالتي ويفهمها الجميع بمختلف لغاتهم دون كتابة توضيحية”.
منذ اندلاع الثورة السورية، برزت العديد من النماذج الفنية في سوريا، لفنانين وفنانات، كما في مشروع “الرسم على الموت” للفنان السوري أكرم سويدان، المهجر من الغوطة الشرقية إلى شمال غرب سوريا، في ربيع 2018، وعُرف بتحويل القذائف ومخلفات الحرب إلى تحف فنية، أو عزيز الأسمر الذي اتخذ من المباني المهدمة بفعل القصف في محافظة إدلب مرسماً له.
قيود مُجتمعية ومادية
بروز نماذج نسائية ناجحة في مجال الفن، بشمال غرب سوريا، لا ينفي وجود عقبات تواجههنّ، من قبيل انتقادات المجتمع المحلي أو تهميشهنّ من المنظمات المحلية، كما قالت بعض من تحدثت إليهن “سوريا على طول”.
أحياناً، تكون الدائرة الأقرب، المتمثلة بالعائلة، هي العقبة الأولى أمام النساء العاملات أو المهتمات بمجال الرسم، فإذا تجاوزنَ هذه الدائرة بإمكانهنَ مواجهة الأصوات المثبطة في المجتمع من منطلق قوة. في بداية نشاطها، عارضت عائلة أماني العلي هذا المجال، لكنهم “تركوا لي حرية الاختيار فيما بعد، وحالياً يعبرون عن دعمهم واعتزازهم بفني ونجاحاتي”.
وبينما كانت تصلها انتقادات بين فترة وأخرى من المجتمع المحيط، تشعر العلي حالياً أنها صارت “أكثر تقبلاً وترحيباً من المحيطين بي، لا سيما الرجال، خاصة أنني استطعت أن أثبت نفسي كرسامة كاريكاتير وصلت رسومها إلى أوروبا”.
ومع ذلك، تصل بعض الانتقادات للعلي حتى الآن، لا سيما عند استخدام ريشتها في قضايا مناهضة العنف ضد النساء، “بذريعة أنني أشوه صورة الرجل”، لكن “في الحقيقة هذا يحصل في المنطقة وخاصة في المخيمات”، مستنكرة هذا الهجوم بقولها: “هدفي هو النشر عما يحصل، إذا كنا لا نريد ذلك فلنضع حدا لما يحصل”.
ومن القيود التي تحدّ من حرية النساء في مجال الفن، قلة المشاريع الداعمة لهنّ من منظمات المجتمع المحلي، حتى أن بعضهن يضطررن دفع ثمن المواد المستخدمة في الرسم على نفقتهن الخاصة. قالت العلي: “لم أجد لي أي داعم في الداخل، بينما في الخارج يتسابقون لدعمي وإقامة معارض لأعمالي، وقريباً ستُعرض لوحاتي في بلجيكا وفرنسا”.
وفيما شاركت العلي بفعالية واحدة في إدلب، منذ أربع سنوات، لا يمر شهر إلا وتُعرض لها صورة أو ينظم لها معرضاً في أوروبا.
وشددت العلي على ضرورة دعم الفنان، لأن “الرسم لا يحقق مدخولاً مالياً كافياً للرسامين والرسامات في الداخل”، وإذا كانت الرسامة تريد أن تحافظ على موهبتها وهوايتها “يتعين عليها أن تؤمن عملاً آخراً تستطيع الإنفاق على نفسها، وتمويل فنها”، مشيرة إلى أنها تحب رسم الكاريكاتير “لكن لوحده لا يؤمن مدخولاً مالياً، فأعمل بالشمع، ومع صحف أجنبية حتى أستطيع المضي في طريق الفن”.
أمام الاحتياجات الكبيرة للنساء العاملات في مجال الفن بشمال غرب سوريا، تبرز بعض الجهود الداعمة لهذا القطاع، من قبيل مشروع “التلمذة المهنية”، التي تنفذه رابطة المرأة الريفية السورية منذ الأول من تموز/ يوليو 2023 ويستمر حتى آخر تشرين الثاني/ نوفبمر المقبل، ويستهدف تدريب 15 سيدة في مدينة أريحا -من أهل المدينة ونازحات إليها- على فن الفسيفساء (الموازييك)، كما قالت صفا لطوف، مديرة الرابطة لـ”سوريا على طول”.
إضافة إلى التدريب لمدة شهر كامل، يتم دعم المستفيدات بمواد العمل والمعدات اللازمة لعملية التصنيع، على أن تقدم كل متدربة لوحة منزلية، تحت إشراف كادر رابطة المرأة الريفية، وفقاً للطوف.
اختارت الرابطة هذا النوع من الفن باعتباره يسهم في دعم واستقرار المجتمع، ويؤمن فرص عمل للمرأة بعد تأهيلها عن طريق “التلمذة المهنية”، بحسب لطوف، مشيرة إلى أن هدف المنظمة يتمثل في تحويل الفن إلى مصدر دخل، إذ “يمكن للمتدربة تخصيص زاوية في منزلها وتحويلها لمشغل صغير، والبدء بإنتاج لوحات فسيفسائية وبيع اللوحة الواحدة بسعر يتراوح بين 30 و150 دولار أميركي”.
عبرت أم محمد، 30 عاماً، إحدى المستفيدات من المشروع عن رضاها بتدريب رابطة المرأة السورية، قائلة: “صرت قادرة على العمل وإنتاج لوحات فسيفسائية بجودة فنية عالية”، لكن المشكلة “في إيجاد فرصة عمل أو تصريف الإنتاج”، كما أوضحت لـ”سوريا على طول”، واتفقت معها بيسان فاعور، 34 عاماً، المستفيدة من نفس المشروع.
تعليقاً على دور منظمات المجتمع المدني في دعم الفن، قالت يافا دياب: “يقع على عاتق المنظمات دور كبير في دعم الفنان بمسيرته الفنية، ولكنها لم تقدم هذا الدعم”، مشددة على ضرورة “زيارة كل فنان لمعرفة واقعه المعيشي، ومن ثم تأمين بيئة تناسبه نفسياً وجسدياً، ودعمه مادياً سواء بتأمين المواد التي تساعده في الإنتاج”.
ثورة نسوية
من التحديات التي تواجه النساء العاملات في مجال الفن بمحافظة إدلب “النظرة العامة للفنون بمختلف أشكالها على أنها للتسلية وملء الفراغ”، وينعكس ذلك على “عدم وجود توجه لتوظيف الفن في خدمة المجتمع ودعمه”، بحسب لطوف.
من جهتها، قالت الكاتبة والباحثة النسوية، علياء أحمد، في حديثها لـ”سوريا على طول”: “تواجه فنانات إدلب تحديات كثيرة، بدءاً من الحصار المفروض على المدينة والموت المحيط من كل جانب، ولا ينتهي ذلك بمحاربة الصور النمطية التي ترفض خروجهن عن المألوف، وتستهين بقدراتهن ولا توفر لهنّ الدعم الكافي”.
لكن، رغم كل العقبات، برز دور الفنانات في إدلب، وهو “أبعد من أن يكون عملاً ذو قيمة فنية وإبداعية، وإنما شكل من أشكال الثورة النسوية، حتى إن لم يطلقن على أنفسهن ذلك”، بحسب أحمد، قائلة: “أعتقد أنهن يستطعن أن يحملن رسائل سلام إلى العالم تعكس جمال إدلب وغناها وتنوعها، وجمال سوريا رغم كل العنف الذي نغرق فيه، لكنهن بحاجة لدعم حقيقي ومنظم بالفعل”.
وأضافت أحمد: “تقدم النساء من خلال فنهنّ آليات إبداعية جديدة يطرحن فيها قضايا ذات بعد إنساني عميق، ومن منظور نسوي فطري، يعكس حب الذات الأنثوية”، معتبرة أن إعلاء صوتهنّ عبر الفن ومواجهتنّ للعنف “هو أرق الطرق وأقواها في نفس الوقت. هذه الإضافات الغنية تعكس شجاعة كبيرة وتستحق من الجميع مزيداً من الدعم”.
تتمنى يافا دياب أن يتم “إنشاء مكتب أو مرسم جماعي يكون مظلة للفنانات، لما له دور في زيادة نشاطهنّ، وتحقيق التنسيق الإيجابي بينهم”، إضافة إلى “إنشاء معارض لأعمالهنّ وتسويق نتاجهنّ الفني”، بحسب دياب، التي ما زالت تنفق من جيبها على فنها، قائلة: “الفن لا يؤمن استقراراً اقتصادياً لي حتى الآن”.
تم إنتاج هذا التقرير بالتنسيق مع رابطة المرأة الريفية السورية، بإشراف “سوريا على طول” ومنظمة “بنفسج”، ضمن المرحلة الثانية من برنامج مراس لتمكين الصحفيين/ـات في شمال شرق سوريا.
رابط المقال الأصلي
زلزال فبراير.. ذكرى مؤلمة وقصة ملهمة
تعرضت مناطق شمال غرب سوريا إلى زلزال مدمر في العام الماضي، ما أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني سوءا، تروي لنا زينب أحد الشاهدين على الكارثة قصص الألم ومأساة العوائل لنتعلم منها القوة ومعنى النجاح
بنفسج وعام 2023!
عام الفخر! كيف كان عام 2023 بالنسبة لبنفسج في جولة مصورة، يأخذكم قسم الإعلام والتواصل في بنفسج حول أبرز المنجزات التي حققناها خلال عام 2023. سنستعرض معكم أهم المحطات والأعمال التي قمنا بها، ونسلط الضوء على مخرجاتنا وكيف استجبنا لكارثة زلزال 6 فبراير. كما سنلقي نظرة...آمال معلقة وجهود ضعيفة: متضررو زلزال شمال سوريا عاجزون عن ترميم منازلهم
بعد مضي نحو ثمانية أشهر على وقوع الزلزال المدمر، الذي أدى إلى تشريد نحو 130 ألف شخص في سوريا، لم تعد الاستجابة لتداعيات الزلزال أولوية بالنسبة للمنظمات الإنسانية ووسائل الإعلام، من وجهة نظر المتضررين، رغم أن معاناتهم مستمرة.
بجهود ذاتية يكافح هواة في شمال غرب سوريا لنشر ثقافة “المسرح”
حتى يأخذ المسرح مكانته في شمال غرب سوريا، ويلعب دوره في التغيير لا بد من دعمه وتطويره، و”الانتقال به من مسرح ترفيهي إلى مسرح قادر على إيصال قضايا وهموم الناس”، في منطقة يعيش نحو ستة ملايين نسمة، بينهم أكثر من مليوني نازح.
نماذج رائدة: سوريات يؤسسن مشاريع اقتصادية شمال غربي البلاد
في صورة مغايرة عن التحديات المعيشية التي تواجه سكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، شمال غرب سوريا، وبعيداً عن مآسي التهجير وظروف المخيمات، تبرز قصص نساء سوريات، تجاوزن الواقع المعيشي بمشاريع اقتصادية خاصة.